أثر ترجمة كتب الفلاسفة على المسلمين
ثم يمضي بنا الزمن إلى العصر العباسي، وبعد حركة الترجمة التي تكتب في كتب التاريخ على أنها حركة علم، وحركة مدنية، وحركة رقي، تلقحت فيها أفكار المسلمين بالحضارات الأخرى، مما جعل المسلمين يصلون إلى تلك المكانة المرموقة.
وهذا كلام يشتمل على حق وباطل، إذ لو كانت الترجمة فيما يتعلق بالعلوم البحتة وما عند الآخرين، لما كان في ذلك من حرج إذا ترجمت في صيغة لا تتعارض مع المفاهيم الإسلامية، وتولى الترجمة رجال أمناء يخدمون هذا الدين.
ولكن الذي حدث أن خرمت الشروط الصحيحة للترجمة الصحيحة، فترجمت الوثنيات -وثنيات أرسطو، وأفلاطون، وهرطقات فلاسفة الهند وفارس، وتولى الترجمة النصارى الذين يعيشون داخل الدولة الإسلامية بقيادة حنين بن إسحاق، وغيرهم فترجمت هذه الوثنيات، وصبت في المنبع الأصيل للمسلمين، مما أوجد الفتنة الفكرية المتلاطمة التي عصفت بالدولة الإسلامية في العصر العباسي، وقد بلغت ذروتها في عصر المأمون، وامتحن علماء الأمة، وكشر الاعتزال عن أنيابه، ولما وصلوا إلى الحكم أرادوا فرض بدعتهم بقوة الحديد والنار، وزجوا بعلماء الأمة في غياهب السجون، وتعلمون أنه لم يثبت علماً في هذا إلا الإمام أحمد بن حنبل، ومحمد بن نوح رحمهما الله.
ولعل الاعتزال له جانب يفرد في حديثنا حتى تندفع تلك المقولة الكاذبة: إنه لا داعي لدراسة الفرق من جهمية، ومعتزلة، ومرجئة، وخوارج، لأن هذه الفرق أكل عليها الدهر وشرب، بينما يثبت البحث التاريخي الصادق أن ما من فرقة معاصرة إلا ولها جذور تاريخية من جذور الضلال.
وقدمت المعتزلة العقل على النقل، ويكفي مثالاً على سخف عقول هؤلاء: أنهم يعتقدون أن تعدد الصفات يلزم منه تعدد الموصوف، فيقولون: إذا قلنا: إن الله راحم، وعليم، وحكيم؛ فيتعدد الموصوف، إذاً فمن هذه القاعدة لا بد من جحد صفات الله فنثبت أسماء الله ونجحد صفاته، ويعلم أصغر العقلاء أن الصفات تتعدد، وأن الموصوف واحد سواء كان في حق الله أم في حق خلقه.
ثم شاء الله تبارك وتعالى أن يهيئ للمسلمين من أمرهم رشداً، وأن تقمع البدعة، وفي كل فترة من فترات التاريخ تتجلى رعاية الله تبارك وتعالى وحفظه لهذا الدين حين قال: ((إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)) [الحجر:9].
ففي كل عصر ومصر يهيئ الله لهذه الأمة من يقوم بحمل لواء الدفاع ضد شبهات الضالين، وانتحال المبطلين، وإن أنسى فلا أنسى الجهمية والباطنية، ومنهم القرامطة، ولهم وجود إلى هذه اللحظة وفي أماكن متفرقة.
قال المقدم: شكر الله لفضيلة الدكتور/ محمد على هذا العرض السريع -وكما أسماه بالبرقيات المستعجلة- لسرد الجانب التاريخي للفرق التي نشأت منذ صدر الإسلام وحتى عصرنا الحاضر، ولا يزال لها من الجذور ما لا يخفى على عاقل.